سورة الممتحنة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الممتحنة)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوَّكم أولياء} أي: أصدقاء، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنه لمّا تجهز رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لغزوة الفتح، كتب إلى أهل مكة، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرديكم، فخُذوا حِذركم. وفي رواية: كتب: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يسير إليكم بجيشٍ كالليل، يسيل كالسيل، فالحذرَ الحذرَ، وأرسله مع ساره مولاة بني المطلب، وقيل: كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط، فنزل جبريلُ عليه السلام بالخبر، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وعمّاراً، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد، وقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة، معها كتاب إلى أهل مكة، فخذوه منها، وخلُوها، فإن أبتْ فاضربوا عنقها» فأدركوها ثمة، فجحدت، فسلّ عليٌّ سيفه، فأخرجته من عِقاصِها. زاد النسفي: أنه عليه السلام أمَّن يوم الفتح جميعَ الناس إلاّ أربعة، هي أحدهم، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، وقال: «ما حملك على هذا»؟ فقال: يا رسول الله! ما كفرتُ منذ أسلمتُ، ولا غششتُ منذ نصحتُ، ولكني كنتُ امرءاً مُلْصَقًا في قريش، ليس لي فيهم مَن يحمي أهلي، فأردتُ أن أتخذ عندهم يداً، وعملتُ أن كتابي لا يُغني شيئاً، فصدّقه صلى الله عليه وسلم، وقَبِلَ عُذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم» ففاضت عينا عمر رضي الله عنه، أي: من بكاء الفرح. والعَدُو: فَعُول، من: عدا، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد. وفي الآية دليل على أنّ الكبيرة لا تسلب الإيمان.
وقوله: {تُلْقٌونَ إِليهم بالمودةِ}: حال، أي: لا تتخذوهم أولياء مُلقين إليهم، أو: استئناف، أو: صفة لأولياء، أي: توصلون إليهم المودة، على أن الباء زائدة، كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195]، أو: تُلقون إليهم أخبارَ النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم، فتكون أصلية. {وقد كفروا بما جاءكم من الحق}: حال من فاعل {تتخذوا} أو {تُلقون}، أي: لا تتولوهم، أو: لا تودوهم وهذه حالتهم يكفرون {بما جاءكم من الحق}؛ الإسلام، أو: القرآن، جعلوا ما هو سبب الإيمان سبب الكفر. {يُخرجون الرسولَ وإِياكم} من مكة، وهواستئناف مُبيَّن لكفرهم وعتوهم، أو حال من {كفروا}. وصيغة المضارع لاستحضار الصورة. وقوله: {أن تؤمنوا بالله ربِّكم} تعليل للإخراج، أي: يُخرجونكم لإيمانكم، {إِن كنتم خرجتمْ جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي}، هو متعلق ب {لاتتخذوا} كأنه قيل: لا تودُّوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
{تُسِرُّون إِليهم بالمودةِ} أي: تُفضون إليهم بمودتكم سرًّا، أو تُسِرُّون إليهم أسرارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة، وهو استئناف وارد على نهج العتاب والتوبيخ. {وأنا أعلمُ} أي: والحال أني أعلم منكم {بما أخفيتم وما أعلنتم} ومُطلِع رسولي على ما تُسِرُّون، فإني طائل لكم في الإسرار، وقيل: الباء زائدة، و{أعلم} مضارع و{ما} موصولة، أو مصدرية. {ومَن يَفْعله منكم} أي: الاتخاذ {فقد ضَلَّ سواء السبيل}؛ فقد أخطأ طريق الحق والصواب.
{إِن يَثْقفوكم} أي: يظفروا بكم {يكونوا لكم أعداءً} أي: يُظهروا ما في قلوبهم من العداوة، ويُرتبوا عليها أحكامها، {ويبسُطُوا إِليكم أيديَهم وألسنتهم بالسوء}؛ بما يسوؤكم من القتل والأسر. {ووَدُّوا لو تكفرون} أي: تمنُّوا ارتدادكم. وصيغة الماضي لتحقُّق ودادهم قبل أن يثقفوكم.
{لن تنفَعَكُم أرحامُكُم}؛ قراباتكم {ولا أولادُكم} الذين تُوالون المشركين لأجلهم، وتتقرّبون إليهم محاماةً عليهم، {يومَ القِيامة يَفْصِلُ بينكم} وبين أقاربكم وأولادكم، بما اعتراكم من أهوال ذلك اليوم، حسبما نطق به قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ...} [عبس: 34-36] الآيات، ويحتمل أن يكون ظرفًا ل {تنفعكم}، أي: لا تنفعكم أقاربكم يوم القيامة، ثم استأنف بقوله: {يفصل بينكم} لبيان عدم نفعهم. وهنا قراءات بيّنّاها في غير هذا. {والله بما تعملون بصير} فيجازيكم على أعمالكم.
الإشارة: أعدى الأعادي إليك نفسك، فهي عدوة لله ولرسوله ولأوليائه؛ لأنها أمّارة بالسوء، ويُضاف إليها جنودها، فيقال {يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}، من النفس وجنودها، تُلقون إليهم بالمودّة والموافقة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق من طريق المجاهدة، يُخرجون الرسول: الوارد الحقيقي أو الإيمان العياني، من قلوبكم، ويُخرجونكم من الحضرة كراهةَ أن تُؤمنوا بالله ربكم إيماناً حقيقيًّا، إن كنتم خرجتم عن هواكم جهادًا في سبيلي، وابتغاء مرضاتي ومعرفتي، تُسِرُّون إليه بالمودة والموافقة، وأنا أعلم بما أخفيتم من الميل إلى حظوظها، وما أعلنتم، ومَن يفعله أي: الميل عن طريق المجاهدة فقد ضلّ سواء السبيل؛ طريق الوصول، فقد قيل: مَن رأيته يتبع الرُخص والشهوات، فاعلم أنه لا يأتي منه شيء. لن تنفعكم أقاربكم ولا حظوظكم، بدلاً من الله شيئًا ماذا وجَدَ من فقدك، فالحظوظ الفانية تفنى وتبقى الحسرة والندامة. يوم القيامة يفصلُ بينكم وبينها؛ لفنائها، أو بينكم وبين ما تشتهون من دوام النظرة، والله بما تعملون بصير، فيُجازي على قدر الكدّ والتعب.


يقول الحق جلّ جلاله: {قد كانت لكم أُسوةٌ} أي: قدوة {حسنةٌ} أو: خصلة حميدة، حقيقة بأن يُرتقى بها ويُقتدى، كائنة {في إِبراهيمَ والذين معه} من أصحابه المؤمنين، أو: الأنبياء المعاصرين له، وقريبًا من عصره، ورجّحه الطبري وغيره؛ لأنه لم يروا لإبراهيم أتباع مؤمنون وقت مكافحته نمرودًا. وقد قال لسارة، حين رحل بها إلى الشام: ليس على وجه الأرض مَن يعبد الله غيري وغيرك. {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ}، جمْع بريء، كظريف وظرفاء، أي: نتبرأ منكم {ومما تعبدون من دون الله} من الأصنام، {كَفَرنا بكم} أي: بدينكم، أو: معبودكم، أو: بكم وبأصنامكم، فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم، {وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبداً} أي: هذا دأبنا أبداً {حتى تُؤمنوا بالله وَحْدَه} وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية، والبغضاء محبة.
وحاصل الآية: أنّ الحق تعالى يقول: إن كانت عداوة الكفار لكم إنما هي لأجل إيمانكم بالحق، فعادوهم أنتم، وكافحوهم بالعداوة، وأَظْهِروا البغضاء لهم والمقت، وصَرِّحوا أنّ سبب العداوة ليس إلاّ كفركم بالله، وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة، حتى إن أزلتموه انقلبت العداوةُ مولاةً، وأنتم مقتدون في ذلك بالخليل عليه السلام وسائر الأنبياء، حيث كافحوا الكفارَ بالعداوة، وتوكّلوا على الله. قال ابن عطية: هذه الأسوة مقيّدة بالتبرِّي من المشركين وإشراكهم، وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة على الإطلاق، في العقائد وفي أحكام الشرع. اهـ.
فلكم أسوة فيمن تقدّم. {إِلاَّ قولَ إِبراهيمَ لأبيه لأَستغفرنَّ لك}، وذلك لموعدةٍ وعدها إياه، أي: اقتدوا به في كل شيء، ولا تقتدوا به في استغفاره لأبيه الكافر. واستغفاره عليه السلام لأبيه الكافر جائز عقلاً وشرعاً قبل النهي، لوقوعه قبل تبيُّن أنه من أصحاب الجحيم، لكنه ليس مما ينبغي أن يُؤتسى به أصلاً. {وما أَمْلِكُ لك من الله من شيءٍ} أي: من هداية ومغفرة وتوفيق. وهذه الجملة من تمام قول المستثنى، كأنه قال: أستغفرُ لك وما في طاقتي إلاّ الاستغفار، إظهاراً للعجز وتفويضاً للأمر. {ربنا عليك توكلنا وإِليك أَنَبْنا} أي: أَقبلنا، {وإِليك المصيرُ}؛ المرجع وهو من تمام ما نقل عن إبراهيم عليه السلام ومَن معه مِن الأسوة الحسنة، وهو راجع لِما قبل الاستثناء، قالوه بعد المهاجرة ونشر البغضاء، التجاء إلى الله تعالى في جميع أمورهم، لا سيما في موافقة الكفرة، وكفاية شرورهم، وقيل: معناه: قولوا، فيكون أبتداء كلام خطاباً لهذه الأمة، وضعّفه أبو السعود. وتقديم المعمول لقصر التوكُّل والإنابة والمصير عليه تعالى.
{ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا} بأن تُسلطهم علينا، فيفتنونا بعذاب لا نُطيقه، {واغفر لنا} ما فرط منا، {ربنا إِنك أنت العزيزُ} الذي لا يذلّ مَن التجأ إليه، ولا يخيب رجاء مَن توكل عليه، {الحكيمُ} الذي لا يفعل إلاَّ ما فيه حكمة بالغة.
وتكرير النداء للمبالغة في التضرُّع والالتجاء.
{لقد كان لكم فيهم}؛ في إبراهيم ومَن معه {أُسوةٌ حسنةً}، تكرير للمبالغة في الحث على الاقتداء به، ولذلك صدّره بالقسم. وقوله: {لمَن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر} بدل من {لكم}، وحكمته: الإيذان بأن مَن يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم، وأنّ تركه مخلّ بالإيمان بهما، كما ينبىء عنه قوله تعالى: {ومَن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُّ الحميدُ}، فإنه إنما يُوعَد بأمثاله الكفرة، أي: هو الغني عن الخلق، الحميد المستحق للحمد وحده.
الإشارة: ينبغي للمريد أن يكون إبراهيميًّا، يتبرأ من كل ما يشغله عن الله، أيًّا مَن كان، ويظهر العداوة والبغضاء لكل مَن يقطعه عن مولاه، حتى يوافقه على طريقه وسيرته، إلاّ على وجه النصيحة والدعاء إلى الله، إن كان أهلاً لذلك، فيُذكِّر مَن خالفه في طريقه، فإن أيس منه استغفر له، ودعا له بالهداية، مُقرًّا بالعجز عن هدايته وتوفيقه، ثم يلتجىء إلى مولاه في جميع أموره، ويتحصّن بالله من فتنة أهل الظلم والغفلة. والله غالب على أمره.


يقول الحق جلّ جلاله: {عسى اللهُ أن يجعلَ بينكم وبين الذين عادَيْتم منهم}؛ من أقاربكم المشركين، {مودةً} بأن يُوافقوكم في الدين. وَعَدهم بذلك لما رأى منهم من التصلُّب في الدين، والتشديد في معاداة أقربائهم، تطييباً لقلوبهم، ولقد أنجز وَعْدَه الكريم، فأسْلَم كثير منهم يوم فتح مكة، فتصافوا، وتوادوا وصاروا أولياء وإخواناً، وخالَطوهم وناكَحوهم. و{عسى} من الله واجبة الوقوع. {واللهُ قديرٌ} أي: مبالغ في القدرة على تغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة، {واللهُ غفور رحيم}، فيغفر لمَن أسلم من المؤمنين ويرحمهم، أو: غفور لما فَرَط منكم من مولاتهم قبلُ، وما بقي في قلوبكم من ميل الطبع إلى الرحم بعدُ، رحيم لمَن لم تبقَ فيه بقية.
الإشارة: عسى الله أن يجعل بينكم وبين نفوسكم، التي عاديتموها وخالفتموها، وقطعتم مواد هواها، مودةً، حين تتهذّب وتتأدّب وترتاض بالمجاهدة، فالواجب حينئذ البرور بها، والإحسان إليها، لأنها انقلبت روحانية، تصطاد بها العلوم اللدنية، والمعارف الربانية، وفيها يقول شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
سايس من النفس جهدك *** صبّح ومس عليها
لعلها تدخل في يدك *** تعود تصطاد بها
فالآية تسلية وترجية لأهل المجاهدة من السائرين دون الواصلين؛ فإنّ المجاهدة لا تكون إلاّ قبل المشاهدة، أو: تكون تسلية لهم عند مقاطعة أقاربهم وعشائرهم، حين فرُّوا عنهم لله، بأن يهديهم الله، حتى يوافقوهم على طريقهم. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3